شهدت الاوضاع بين المسيحيين في لبنان في الآونة الاخيرة، تدهوراً كبيراً كاد ان يؤدي الى مواجهات شاملة في اكثر من منطقة لولا تدخل الجيش والقوى الامنية في الوقت المناسب. وليس خفياً ان الطرفين الاكثر انتشاراً لدى المسيحيين هما التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، فيما تمثل التيارات والاحزاب المسيحية الاخرى نسبة الاقلية المتبقية. وكان من الطبيعي ان يدخل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي على الخط، كي يعيد الامور الى طبيعتها. ولكن ما حصل اتى بنتيجة معاكسة، فشكّل صفعة للمسيحيين ولبكركي على حد سواء، اذ اظهر عدم رغبة في جلوس الطرفين الاساسيين الى طاولة واحدة (وهو ما عبّر عنه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع)، فيما ترك انطباعاً سيئاً بالنسبة الى البطريرك الراعي الذي سيؤخذ عليه عدم قدرته على جمع الاطراف المسيحية تحت سقف واحد، فكم بالحري جمع اللبنانيين حول طرحه الذي ينادي به بـ"الحياد الايجابي"؟.
وبغض النظر عن الاسباب التي دفعت رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل قبول فكرة اللقاء ورفض جعجع لها، فإنّ الثابت ان مثل هذه اللقاءات لن تؤثر على الوضع العام في البلد، ولكن من شأنها ان "تنفس" الاحتقان المسيحي-المسيحي بطبيعة الحال، وتخفف من التوتر الحاصل بين المؤيدين الشباب لكل من الطرفين، اما انتظار توافق سياسي اساسي بينهما اوبين المسيحيين ككل، فهو امر بعيد المنال في ظل حصول اللقاء او عدمه. وفي كل الاحوال، وفي نظرة واقعية للامور، لن يغيّر أيّ حزب او تيار من قناعاته لانه سيعني ذوبانه في الآخر، وهو ما لم يحصل لعقود من الزمن، ولن يحصل لعقود مقبلة. اما الوصول الى تحالف على غرار "الثنائي الشيعي"، فلا طائل منه لانّ التحالف الشيعي قسّم تولّي الادوار والمناصب، وهو ما لايمكن للاطراف المسيحيّة التوافق عليه لاسباب معروفة، وهو ما يضعها في كل مرة خارج المعادلات المهمّة، ويبقيها فقط في سباق تولّي المناصب وبشروط ضعيفة.
ولا يخفى ان البطريرك كان ليستفيد حتماً من حصول اللقاء المسيحي تحت قبّة بكركي، لينطلق من قدرته على "المَوْنة" على الاطراف المسيحيّة في أي مسعى او موقف يتّخذه، في سبيل الوصول الى هدف جمع بعض الاطراف من خارج الطائفة المسيحية علّه يستطيع خلق حالة معيّنة توجب اعادة التفكير من قبل الجميع بطريقة مقاربة جديدة للاوضاع. ولكن هذه النظرة التفاؤليّة لم يكتب لها النجاح، وبدا البطريرك خاسراً في هذه المعركة، بعد ان شهد في الفترة السابقة "طفرة" تأييد واسعة على اكثر من نطاق ومن اكثر من طائفة، الا انّ التطورات الاخيرة على الصعيد السياسي والحكومي تحديداً، وعلى صعيد الاعلان عن اتفاق-إطار لترسيم الحدود البرية والبحرية مع اسرائيل، انهيا هذه الموجة التي كانت سائدة وسحبا المبادرة البطريركية من التداول، كما انّ وهجها الاعلامي لم يعد لديه الحضور اللازم.
وعليه، يبقى المسيحيون في لبنان ومن خلال تشتّتهم وعدم قدرة احد على جمعهم، مجرد قوة حاضرة لتعبئة فراغ معيّن في المناصب، وليس للعب دور فاعل اساسي في اتخاذ القرارات او فرض افكار معيّنة على طاولة البحث، ويتشبّثون بتحالفات محلية متقلّبة، دون القدرة للحفاظ على ماء الوجه من خلال لقاء شكلي يهدف فقط الى اراحة الاجواء في الشارع المسيحي. لم يستطع المسيحيون التكيّف بعد مع تغيير الدستور منذ اتفاق الطائف، ولم يتأقلموا معه، وما زالوا يتقاتلون في ما بينهم معتقدين انهم في "لبنان القديم" الذي سيطر عليه نظام شبه رئاسي، بعد ان كانت الصلاحيات الرئاسيّة فاعلة وقادرة على تغيير قواعد اللعبة المحلية، فمتى يستفيقون؟.